الجمعة، 21 نوفمبر 2008

خريف الحب - سناء البيسي

خلف القضبان وفي ساحة محكمة الجنايات وبعد عامين وستة أشهر وتسعة عشر يوما علي حادث اغتيال أمين عثمان باشا كان من بين المتهمين الذين قدموا لسماع الحكم عليهم المتهم محمد أنور السادات متميزا في الصور التاريخية بأناقته البالغة داخل الجاكتة الشاركسكين البيضاء والكرافتة السادة اللامعة والشارب المشذب بعناية بعرض ابتسامته الناصعة البياض‏..‏ ومثل تلك الأناقة تبدت طوال فترة نظر القضية في لقطات المشاوير ما بين السجن ومحكمة الجنايات حيث كان موكب المتهمين يمر بطول شارع محمد علي داخل عربة لوري مفتوحة وفي المقدمة الشاب الأسمر الأنيق بالبدلة الكاملة والكرافتة الرفيعة بربطة غاية في الدقة موضة سنة‏1948..‏ وكان حادث الاغتيال قد وقع في مساء الخامس من يناير‏1946‏ وبلغ فيه عدد شهود الإثبات‏12‏ شاهدا بينهم مصطفي النحاس باشا والنائب العام عبدالرحمن الطوير باشا وأربعة من ضباط البوليس‏,‏ ووكيل نيابة وسيدتان‏..‏ أما شهود النفي فبلغ عددهم‏10‏ من بينهم منم رؤساء الوزارات علي ماهر باشا وحسين سري باشا وحسين هيكل باشا رئيس مجلس الشيوخ ووزيران سابقان ووكيل وزارة ومستشار سابق بمحكمة النقض والإبرام‏,‏ وصحفي وضابط بوليس‏..‏ وقد استغرق نظر القضية‏84‏ جلسة‏,‏ وبلغت صفحات التحقيق‏1580‏ صفحة‏,‏ وترافع عن المتهمين‏35‏ محاميا من مختلف الأحزاب‏,‏ وصدر الحكم بإدانة‏14‏ متهما من الستة والعشرين وتبرئة أحد عشر من بينهم اليوزباشي الأنيق محمد أنور السادات أكبر المتهمين عمرا وأكثرهم ثقافة وتجربة‏.‏أناقة السادات سمعت عنها بالتفصيل من سويلم الترزي الخصوصي له صاحب المحل الشهير في أول شارع عبدالخالق ثروت المتفرع من سليمان باشا‏..‏ من أنه كان يقوم بشكل دوري بتفصيل جميع ملابس السادات للمناسبات العامة والخاصة من أول الأطقم الكاجوال والسفاري والبليزرات وبدل الاستقبالات الرسمية التي يفضلها مع الكرافتة المنقطة‏,‏ وكثيرا ما اختارها من القماش الكاروهات الاسكوتش الإنجليزي أو المقلم بأقلام فاتحة علي أرضية داكنة‏,‏ وكان يفصل له البيجامات والأرواب المنزلية‏,‏ إلي جانب العباءات الحريرية والصوفية المطرزة والجلاليب البلدية المطورة في حردة الرقبة والمرد لجلسات المصطبة المسترخية التي يدلي فيها بأحاديث ذات ذكريات وشجون مستعرضا الأماني والإنجازات والهموم للمذيعة همت مصطفي في بلدته بالمنوفية ميت أبوالكوم‏..‏ ولا أنسي ما قاله لي يوما الزميل الراحل محمود أحمد المحرر البرلماني للأهرام عندما سافر ليغطي زيارة الوفد البرلماني المصري برئاسة أنور السادات رئيس مجلس الشعب إلي إيطاليا‏,‏ الذي اصطفاه ليصحبه لأحد المحال الشهيرة ببيع القماش الرجالي‏,‏ فلاحظ شراء السادات لست قطع من كل نوع قماش يقع عليه اختياره‏,‏ وعندما شعر السادات باندهاش الزميل همس له ضاحكا بأنه يوفر بذلك علي روحه وجع الدماغ من ملاحظات الرجل الكبير‏:‏ والستة يا ابني بتبان كلها كأنها هي هي البدلة الواحدة ولا من شاف ولا من دري ولا من اشتري‏..!‏ولقد كان أكثر ما شعر به السادات من مرارة وإحباط في سجن مصر عام‏1946‏ تركه لمدة ثلاثة أيام ببذلته دون غيار أو صابونة اغتسال‏..‏ وبعد خروجه من السجن في عام‏1948‏ ذهب يتواري في بنسيون رخيص في حلوان حيث نفدت نقوده ليفاجأ بزيارة الصديق القديم زميل معتقل الزيتون حسن عزت الذي لاحظ هبوط معدل أناقته إلي الحضيض بعد أن بلي نسيج البنطلون الرمادي الوحيد من الخلف‏,‏ وغدا بياض الجاكيت الشاركسكين اليتيم مكللا بسواد الزمان والمكان‏,‏ فذهب يفصل له بذلتين ويشتري له عدة قمصان‏,‏ وعندما أعجب السادات باختراع الجوارب السوكيت التي ترتدي بسهولة وبدون حمالات‏,‏ أي أستيك منه فيه‏,‏ وكانت قد انتشرت في الأسواق في فترة سجنه قام الصديق حسن بشراء أربعة أزواج له اختارها السادات زوجين كحلي وزوجين من اللون الأسود الذي يفضله مع الأبيض ليصنع جمال التضاد‏..‏ وعن مدي حرصه علي مظهره في أحلك ظروف حياته بعد خروجه في السجن عام‏1945‏ عندما كانت الخمسة مليمات بالنسبة له عملة صعبة فيسير أكثر من‏20‏ كيلو لأنه لا يملك‏6‏ مليمات أجرة الترام‏..‏ نشأت علي حبي للجمال في كل شيء‏,‏ وكانت ملابسي ضمن الأشياء التي أتطلب فيها الجمال‏,‏ وكانت عندي جاكتة أعتز بها كثيرا ارتديتها قبل اعتقالي مرات معدودة لا غير‏,‏ فقررت أن أبيعها في محل من محلات وسط البلد التي تشتري الملابس المستعملة‏..‏ وفعلا أخذتها وتوجهت إلي إحدي هذه المحلات ولكني عندما أصبحت علي مسيرة قدمين من المحل توقفت‏..‏ لابد أن صاحب المحل سيتصور أني سرقتها فليس من المعقول أن شابا رث المنظر بهذا الشكل يمكن أن يمتلك هذه الجاكتة الوجيهة‏..‏ خطر لي هذا الخاطر فتراجعت عائدا سيرا علي الأقدام إلي البيت ومعي الجاكتة‏..‏ كنت أعرف أن التاجر لن يسألني من أين أتيت بها‏,‏ وكنت واثقا من أنه سيشتريها بأي ثمن وأن هذا الأي ثمن مهما كان ضئيلا سوف يفك ضائقتي‏..‏ ولكني فضلت ألا أشوه صورتي ومظهري في نظر إنسان لا أعرفه ولا يعرفني مهما كلفني ذلك‏..‏ولأنه أنور السادات كان ما قرأته عنه سجينا وبخط يده من يوميات كتبها علي مدي‏30‏ شهرا داخل سجن الأجانب وسجن مصر بمثابة تاريخ وإعادة اكتشاف‏..‏ تاريخا وليس تأريخا لمن عبر وأعاد الأرض وقام بالزيارة الصدمة التي استغرقتها الطائرة في أقل من أربعين دقيقة من مطار أبوصير في القناة إلي مطار اللد ليستقل السيارة مع كارتزير رئيس إسرائيل الأستاذ الجامعي ويصل للقدس ضيفا علي فندق الملك داوود ويردد مع خيوط الفجر في صلاة العيد بالمسجد الأقصي‏:‏ صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده‏,‏ ونادي بحقوق الفلسطينيين داخل الكنيست في خطاب أعده له موسي صبري‏...‏ من فتح القناة بعد إغلاقها ثماني سنوات‏,‏ والتي قال إنها بعد افتتاحها قد أثبتت أنها‏LuckyStrike,‏ وانفتح بسياسة نقضها البعض لينقدها البعض‏,‏ وتوسع يغزو الصحراء بمدن كفراوية جديدة‏,‏ وأذن بدفن الملك فاروق في وطنه بمسجد الرفاعي تلبية لرغبة الأميرة فريال ليكون مع رفات أجداده من بعد أن دفن أولا في مسجد الشافعي‏,‏ وأراد أن يواري سوأة عشرات المومياوات الفرعونية في موكب جنائزي مهيب يليق بأجدادنا الملوك تقديسا وأخلاقا ودعاية وزفة سياحية عالمية ليس لعرضها مثيل‏,‏ وانبري يرد علي أسئلة بربارا والتز المذيعة التليفزيونية العالمية بإجابات أحسن منها‏..‏ من اختار نائبا له منذ بداية حكمه‏,‏ واتخذ من عثمان صديقا ومن كيسنجر صديقا ومن كارتر صديقا ومن الشاه صديقا ومن العتال الذي شاركه العمل علي عربة النقل أيام الهروب صديقا‏,‏ ومن المستشار الألماني هيلموت شميت صديقا وصدوقا‏,‏ حتي أن شميت كتب في مذكراته عن صديقه السادات فصلا كاملا يقرظه فيه‏,‏ واعتكف العشر الأواخر من رمضان في استراحة سانت كاترين مخططا لمجمع الأديان‏,‏ وسن لكل مناسبة زيها ولكل مقام مقال ولكل مجال مغناطيسيته‏,‏ وضرب مراكز القوي في مقتل من بعد اكتشافه التسجيل تحت السرير‏,‏ ومكثنا نظن أن الديمقراطية تترفق بالناس فإذا بها عنده لديها المخالب والأنياب‏,‏ ووضع قانونا للعيب‏,‏ وطور في مشية الإوزة الهتلرية‏,‏ وتسلح بعصا المرشالية‏,‏ والتزم في خطبه لعدة دقائق بما كتب له ليزيح من بعدها الأوراق وينبري يقول ما عنده ويختم بآياته المنزلات من سورة البقرة‏:‏ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏,‏ ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علي الذين من قبلنا‏,‏ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين‏..‏ من داوم علي يدي النبوي إسماعيل النجاح في الانتخابات بنسبة‏99.9%..‏ واغتيل يوم عرسه‏..‏ من عشق الانطلاقة من أسوار التزمت في السجن أو الحرس الجمهوري‏,‏ فهرب من الأول وتفنن في صنع المشكلات للثاني عندما كان ينطلق وحده بالعربة الفولكس ليقسم البعض أنهم شاهدوا مثيلا له الخالق الناطق علي الكوبري وفي زحام الإشارة وعلي الطريق السريع‏..‏ من كانت نقطة ضعفه وقوته في حبه للعمار والتعمير حتي أخذ عليه قوله‏:‏ نفسي كل حتة أرض في مصر تغلي‏,‏ وكان مقصده البرئ أن يبني كل جزء من الصحراء ليجد الشباب والفقراء بيوتا تظللهم ولم يكن يدري أن أمنيته ستتحقق علي يد سماسرة العقارات والعمولات وتسقيع الأراضي وتشفيرها وطرحها بالمليارات لأجانب الدولارات والدينارات‏..‏ليس تأريخا للرجل فليست مهمتي ولا صناعتي ولا أنا المؤهلة أكاديميا أو سياسيا أو حزبيا لها‏,‏ ولا أنا من خريجات مدرسة الدكتور يونان لبيب رزق الراصدة لتاريخ صفحات جريدة الأهرام المئوية‏,‏ وإنما مجرد واحدة غاوية البحث عن مفاتيح الشخصية للقيام برسمها فقط لا غير‏,‏ وشخصية السادات علي مدي أيامه وأحداثه أنه لم يكن دمويا في صراعاته أو خلافاته مما جعله متهما في بعض الأحيان بالتراخي الأمني‏..‏ شخصية رجل منعم بطاقة فن التشخيص التي صنعت مجده وصنعت مأساته‏,‏ والتي شعر بوطأتها في شرخ الشباب فأرسل صورته للمنتجة آسيا في عام‏1939‏ عندما طلبت وجوها جديدة لغزو الشاشة‏,‏ ونشرت مجلة الهلال صورته كوجه مرشح للتمثيل‏,‏ وأراد السادات وهو علي رأس المؤتمر الإسلامي جمع أعداد الهلال القديم الذي نشر الصورة فكان من غير المستطاع‏,‏ وربما من هذا المنطلق كتب بيجن في مذكراته عنه قوله‏:‏ السادات مثل علي الدور‏,‏ وشخصية الممثل المقنع المقتنع بجوانبه السلبية والإيجابية تلك جعلته في عام‏1932‏ يخلع ملابسه ويغطي نصفه الأسفل بإزار ويصنع نولا للغزل ويعتكف فوق سطح بيتهم في كوبري القبة لعدة أيام تشبها وانبهارا بالزعيم مهاتما غاندي إلي أن تمكن والده من إقناعه بالعدول عن دوره الذي لن يفيده أو يفيد مصر في شيء‏,‏ بل علي العكس من المؤكد أنه سيصيبه بمرض صدري‏,‏ وعندما زحف هتلر من ميونخ علي برلين ليخلص بلاده من آثار هزيمتها في الحرب العالمية الأولي قام بطلنا بجمع أقرانه وهو في الثانية عشرة ليتزعمهم مثل هتلر الذي يجيد طريقة أدائه للزحف علي القاهرة من ميت أبوالكوم‏..‏ وأبدا لم يمثل لون بشرته الداكنة لديه أية عقبة لتخطي السدود إلي قمم الأناقة والوجاهة والجاذبية‏,‏ فقد نشرت مجلة لايف صورته إلي جانب النجم جريجوري بيك وأمير موناكو كواحد من أكثر رجالات العالم أناقة‏,‏ تلك الأناقة التي قد تكون جزءا من أسباب اغتياله عندما رفض ارتداء الجاكت الواقي من الرصاص تحت البدلة العسكرية المحبكة ألمانية الطراز في حضور العرض العسكري ليظل محتفظابوزنه المثالي ومظهر رشاقته التي داوم من أجلهما علي الرجيم والجبن القريش‏,‏ وبقي قوامه حتي النهاية بدون كرش أو سنتيمترا زائدا من الشحم‏.‏إن يوميات الشهور الثلاثين التي قضاها محمد أنور السادات في السجن ما بين عامي‏1946‏ و‏1948‏ تعد نافذة تاريخية علي ما قد جري‏,‏ أما ما خرجت منها بإعادة الاكتشاف فقد كان اكتشافي لنفسي من أنني عندما أحببته‏..‏ السادات‏..‏ كان عندي حق‏.‏من بين أيامه المسجونة كتب في‏20‏ يناير‏1946‏ في سجن الأجانب‏:‏ مضي علي الآن ثلاثة أيام وأنا أنام ببدلتي‏,‏ فقد نقلوني إلي هنا مساء الخميس السابق دون أن يحضروا ملابسي وحاجاتي من سجن مصر حيث كنت‏,‏ لذلك كتبت خطابا شديد اللهجة إلي النائب العام في شأن هذا الإهمال‏,‏ وتركي بدون ملابس أو حتي صابونة لأغتسل‏..‏ وقد سبب لي النوم بالبدلة التهابا شديدا في فخذي جعلني أهرش كما لو كنت أجرب‏!‏‏4‏فبراير‏1946‏طلعت علينا جريدة المقطم وفيها خبر نقل كيلرن من مصر‏,‏ ولما كنت أبغض هذا المخلوق الذي أدمي كرامة مصر كلها‏,‏ فقد صممت علي أن أحتفل‏,‏ وأرسلت في شراء دستة جاتوه باسم المسجونة ليلي الهندية ووزعتها علي ليلي والسجانات واستبقيت لنفسي ثلاث قطع احتفل بأكلها علي فنجان شاي المساء‏,‏ وقد استمتعت بأكلها أيما استمتاع‏,‏ خاصة أن المعازيم تركوها لي من النوع الدسم المملوء بالكريمة‏,‏ وفي نحو الساعة الثانية صباحا استيقظت علي مغص وإسهال مروع‏,‏ واتضح أن الجاتوه كان تالفا‏,‏ وقد جئ به من دكان في شارع محمد علي‏..‏ إنني أقرر لوجه الحقيقة أن بغضي لكيلرن قد تحول إلي حقد دفين منذ هذه الليلة‏!‏‏14‏فبراير‏1946‏ليلي الهندية تحب السجين رقم‏19‏ هذه هي العبارة التي يرددها السجن كله‏,‏ قالتها لي سنية السجانة‏,‏ بل أكثر من هذا تقدمت ليلي للمأمور بطلب إعطاء المسجون رقم‏19‏ فسحة أطول لكي تتمتع بالتحدث إليه ومناجاته‏,‏ وقد دفعني الفضول لرؤية هذا الحبوب وبكل عناء تمكنت من أن أراه لمدة نصف دقيقة فوجدته يستحق إعجاب ليلي فعلا‏,‏ إذ كان شابا أشقر ذا أنف روماني‏,‏ وشعر أصفر‏,‏ وتقاطيع متناسقة في رجولة‏..‏ وقد علمت فيما بعد أنه يدعي محمد إبراهيم كامل‏.‏أول يوليو‏1946‏اجتمعنا نحن المتهمين في قضية أمين عثمان نفكر في كيفية جعل حياتنا هنا شيئا محتملا بقدر الإمكان وانتهينا إلي القرارات الآتية‏:‏‏1-‏ يصير توزيع جميع الأطايب الحلويات وما شابهها التي تأتي لأحد المتهمين علي الجميع‏.‏‏2-‏ علي كل من يري امرأة جميلة في شباك سجن النساء أن يخطر الباقين لمشاهدتها أثناء الطابور والغزل ممنوع ويكتفي بالمشاهدة‏,‏ أو المصمصة فقط‏.‏‏3-‏ إصدار مجلتين أسبوعيتين تتضمنان الحوادث العامة والتعليق عليها‏,‏ ونقد المتهمين أنفسهم‏,‏ والتعليق علي ما يدور من حوادث السجن بخلاف أي مواد أخري يراها رئيسا التحرير‏.‏‏10‏يوليو‏1946‏المكان كخلية النحل‏,‏ فبينما أخذ المتهمون في استحضار الكتب والمؤلفات‏,‏ نجد رئيسي تحرير المجلتين المزمع إصدارهما وسيم خالد و محجوب الجابري يتفنن كل منهما في اختيار الأقلام الملونة والورق‏..‏ وقد سرت إشاعة أن المقالة الجيدة أو القصيدة الموزونة ثمنها سيجارة ولاشك أن ضخامة التمويل هذه تبشر بإنتاج صحفي رائع فالسيجارة هنا أندر من الذهب‏.‏بداية أغسطس‏1946‏استيقظنا لنري في غرفة كل منا إعلانا من هيئة تحرير الهنكرة والمنكرة وهو الاسم الذي اختاره وسيم لمجلته يحوي أقذع الشتائم لهيئة التحرير الأخري ويتهم محرريها بأنهم مأجورون‏,‏ وأن محجوب شوهد مع الضابط النوبتجي في خلوة أمنية‏.‏نهاية أغسطس‏1946‏قاتل الله البروباجندا‏..‏ اليوم نظمت هيئة تحرير الهنكرة والمنكرة موكبا في طرقة السجن يتقدمه محجوب‏,‏ ومن خلفه مدحت يعزف علي مندولين مصنوع من أستيك الكالسونات ومشدود علي علبة فواكه فارغة‏,‏ وسعيد يحمل طبلة مصنوعة من كرتون مشدود علي صحن المياه المنصرف لنا‏,‏ وسار الموكب والمسجونون يصفقون ويهللون إلي أن وقعت الطامة وجاء ضابط السجن علي هذا الضجيج‏..‏ وكان من نصيبنا أن أقفلت علينا الزنازين طيلة اليوم وهددونا بقفلها طيلة الأسبوع إن عدنا‏..‏ ألا قاتل الله البروباجندا‏!‏‏26‏أكتوبر‏1946‏دام الإعداد للمجلة شهورا وفي العدد الأول لم يفت أصحابها العناية بباب الأخبار ومنها هذه الانفرادات‏:‏ دخل أحد اللصوص حجرة عمر حسين أبو علي لتأدية واجبه كالمعتاد‏,‏ ولكنه لم يعثر في الحجرة علي آثار المأكولات‏,‏ فرق قلبه لما تبين حالة الفقر المدقع التي كانت تظهر علي الحجرة وخرج تاركا فيها موزة وثلاث بلحات‏..‏ لله‏..‏ قال لنا فريق سابق إن السيجارة في السجن أثمن من فردة كاوتش بره‏..‏ تتناقل الألسنة هذه الأيام أن أنور السادات وقع في غرام سجن النساء‏..‏ والحب أعمي كما يقولون‏..‏‏20‏فبراير‏1948‏استخف بنا الفرح بعد الحكم الابتدائي بالبراءة فنظمنا مهرجانا لسهرة في قصر هارون الرشيد واشتركنا جميعا في التمثيل والإخراج والغناء والاستمتاع في آن واحد‏,‏ وكان توزيع الأدوار كالآتي‏:‏ أنور السادات‏:‏ الخليفة هارون الرشيد‏,‏ وحسين توفيق‏:‏ السياف عبدالله‏,‏ والسيد عبدالعزيز خميس‏:‏ القهرمانة وكبيرة القيان‏,‏ وسعيد توفيق‏:‏ كبير الحجاب‏,‏ ومدحت فخري‏:‏ شهرزاد الراقصة المغرية‏,‏ وعمر أبو علي‏:‏ اسحق الموصلي‏,‏ وأحمد وسيم ومحمد كريم ومحجوب‏:‏ فتيات الكورس‏,‏ والجوهري‏:‏ بائع اللب‏,‏ ومراد‏:‏ الخواجة ورئيس وفد الفرنجة‏,‏ وتبدأ السهرة بصوت القهرمانة ومن خلفها ترديدات الكورس‏,‏ ويطرب الخليفة فيستعيد النغم مثني وثلاثا ولا يتمالك عندما يأخذ الطرب بمجامع نفسه من أن يندفع ويرد علي الكهرمانة والقيان‏:‏أنا جيت لكم والله يا ولاد‏..‏ أنا أحبكم أوي أوي يا ولاد‏..‏ أنا جيت لكم أنا جيت‏..‏ دا الاتهام لخبيط‏!!‏ويطلب الخليفة من القهرمانة أحدث مواويل الموصلي في الصبر والسلوان فتنشد مع القيان‏:‏نامت عيونك وعين الله ما نامت‏..‏ ما في ولا شدة علي مخلوقها دامت‏..‏ وإن دامت الشدة ما يدوم صاحبها‏..‏ راحت ليالي الهنا ياليتها دامت‏..‏وتندفع الراقصة المغرية شهرزاد علي نغمات الموال‏,‏ ويصيح الخليفة في حبور‏:‏ هدهدوني هدهدوني اطربوني اطربوني‏,‏ وينتهز بياع اللب الفرصة فينادي علي بضاعته بصوت نشاز فيأمر الخليفة بإخراجه من المكان‏,‏ ويحل وقت العودة إلي الزنزانات فينتهي الحفل بين رنين الضحكات‏,‏ وباسم الثغور‏,‏ وبالغ البهجة والحبور‏..‏ وغضب السجانين وصك الأقفال‏!‏يونيو‏1948‏فجأة‏..‏ ودون أن يعلم أحد هرب حسين توفيق‏,‏ لقد وصلنا الخبر أول ما وصل‏,‏ علي وجه السجانين والضباط‏,‏ ثم انهالت علينا القيود والتشديدات‏,‏ وعدنا إلي سالف العصر والأوان‏..‏ لقد كان حسين شرا في وجوده‏,‏ وشرا في هروبه‏,‏ ففي وجوده كان خير من يثير عنف المناقشات وزعيره يكهرب الجوب بالتكهنات والخرافات‏..‏ ثم هرب فكان سببا فيما نزل بنا من كبت وإرهاق‏,‏ اللهم سامحه وألطف به وبنا‏.‏‏7‏يوليو‏1948‏انتهي اليوم الدفاع وتأجلت القضية إلي جلسة‏24‏ يوليو بالحكم‏.‏‏20‏يوليو‏1948‏منذ يومين ونحن مشغولون بالأحلام التي هطلت علينا كالمطر ويظهر أن الحالة النفسية المسيطرة علينا كان لها الأثر الأول في تكاثرها‏,‏ فقد رأي مدحت أنه يلبس ثيابا بيضاء ويركب حصانا أبيض ويسير به الهويني في نادي سبورتنج‏,‏ ولما التقينا رفض أن يكلمنا لأنه من الأسياد ونحن فلاحون‏..‏ وقد نال جزاءه علي ذلك بأن فسرنا له الحلم ألعن تفسير‏..‏ ورأي عمر في المنام أنه معزوم في مأدبة بها ما لذ وطاب لكنه كلما مد يده ليتناول لونا تحول في يده إلي لب أو حمص حتي انقطع قلبه علي حد تعبيره‏,‏ وفجأة رأي العزومة تنقلب إلي عنبر السجن‏,‏ والطعام يتحول إلي يمك السجن فاستيقظ مهموما‏..‏ ورأي محمد كريم في المنام أنه قد نبت له ذيل وأنه كان يبكي خجلا من أن يعرف زملاؤه ذلك‏.‏‏24‏يوليو‏1948‏قال القضاء كلمته ليقرر أني برئ‏,‏ وها أنذا أكتب هذه الكلمات من بنسيون في حلوان جالسا وفي رأسي زحام كبرج بابل‏..‏ لكني أردد‏:‏ اللهم لك الحمد حتي ترضي‏.‏السادات‏..‏ فلاح ميت أبو الكوم الذي هرع طفلا حافيا بالقميص البفتة في ذيل جدته أم الأفندي فوق الجسر للحاق بمركب البلاليص الراسية في كفر زرقان لأن العسل وصل‏..‏ المطارد الذي قام عاملا باليومية بقطع الرخام في محجر جنوب بني سويف ليقوم بنقله بنفسه إلي الأهرامات ليبني استراحة فاروق‏..‏ اليوزباشي خريج السجون الذي اختبره شكري زيدان للتأكد من أنه الكاتب الحقيقي ليوميات الثلاثين شهرا في السجن قبل الإذن بنشرها فأعطاه مهلة النصف ساعة الباقية علي دوران المطبعة ليمط فقرة كتبها في سطرين إلي عامود ونصف‏,‏ فأنجز مهمته في عشر دقائق فقط‏,‏ فقام بتعيينه براتب شهري وليس بالقطعة كالآخرين‏,‏ وذلك في وظيفة المراجع في دسك دار الهلال خلفا لإحسان عبدالقدوس‏...‏ السادات الذي عمل بالسياسة منذ عام‏1939‏ عضوا في أول تنظيم سري للضباط كان اغتياله في‏6‏ أكتوبر‏1981‏ بسبب قوله المأثور المطبوع بختم السادات‏:‏ لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين الجملة التي قالها أثناء خريف الغضب‏...‏ ويمضي علي الذكري‏26‏ عاما أسافر فيها للعريش وشرم الشيخ وأقيم في فندق طابا وأقارن اسماعيلية‏67‏ بإسماعيلية‏73‏ وأزور مدن العاشر و‏6‏أكتوبر والسادات وأقف أتطلع علي رمال شاطئ فايد للمدن العالمية العائمة في تهاديها عابرة القناة فأستشعر خريف الحب‏..‏ وأردد دعاء السادات‏:‏ ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏..‏ واعف عنا وارحمنا

ليست هناك تعليقات: